نقلاً عن
نادي المال والاعمال - الامارات : في الحادي والثلاثين من يوليو الماضي، مضى 42 عاماً على غياب شاعر الهوى والشباب بشارة عبد الله الخوري الملقب بـ(الأخطل الصغير) الشاعر الذي كان وما زال يعيش في ذاكرة الشعر العربي حياً لا يغيب. فمن رائحة الياسمين والسوسن العطرة ومن تردد نغمات أمواج شواطئ لبنان المتحدبة، من تسابيح بلابل جنان بيروت العبقة، ومن سحر عيون العاشقات النضرة... نظم ذلك الصادح عقده، فكان عقيقاً ومرجاناً، فما أبدعه نظماً، وما أحسنه لضماً.. رحل شاعر الحب بعد حياة حافلة بالعطاء والإبداع، واستطاع خلالها تخليد مآثره الشعرية التي عبر عنها بكل عمق وإحساس وشفافية.ماج
تلك المآثر الجميلة التي أبدع بعضها غناء العديد من المطربين العرب ومن بينهم فيروز بقصيدة “يبكي ويضحك” ورائعته “جفنه علم الغزل” التي تغنى بها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. كذلك لحن له وغنى فريد الأطرش ثلاث قصائد أولها: “ختم الصبر بعدنا بالتلاقي” و”أضنيتني بالهجر” و”عش أنت”.
ولد الأخطل الصغير في بيروت عام 1885، وتعلم القراءة في مدرسة حي الرميلة وبعدها دخل المدرسة الارثوذكسية عام 1920، ومكث فيها سنتين. أما عام 1904 فقد شهد انتقاله إلى مدرسة الحكمة، حيث بدأت براعم الشعر تتفتح في مخيلته، وقد منحه خياله الواسع نافذة مشرعة أطل منها على الحياة التي تعرف إلى حقيقتها كما هي دون تزييف أو رتوش، بادئاً بنظم الشعر، محاكياً لما حوله ومتأثراً بالكثير من شعراء الرومانسية والغزل قديماً وحديثاً. وقد وصف بأنه شاعر الألم والمجد والعشق لامتياز شعره بالغنائية، وساهمت النضارة الشعرية في سر بقائه حياً في أذهان النقاد والشعراء والمثقفين حتى يومنا هذا، حيث يتجدد الاحتفال عربياً في ذكرى رحيله التي تلقى اهتماماً خاصاً في الساحة الثقافية العربية عامة وفي بلاد الشام خاصة.
عندما أعلن الدستور في تركيا، كان بشارة الخوري قد بلغ التاسعة عشرة من عمره، ومع ذلك فقد دفعه عشقه للكلمة والحرية إلى إصدار صحيفة بعنوان “البرق”، وكان ذلك في شهر سبتمبر من عام 1908، التي سرعان ما تحولت مكاتبها إلى ملتقى يؤمه كبار الشعراء والكتاب، كونها عدت من قبلهم صوتاً مناضلاً وشريفاً، مما أسهم في استقطاب أعداد كبيرة من رجال السياسة والإعلاميين والمفكرين ليعقدوا فيها جلساتهم المزدحمة بمناقشات حول شؤون الأمة والإبداع.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى احتجبت صحيفة “البرق” عن الصدور، عندها لجأ الخوري إلى الجبال، وبعد انتهاء الحرب استأنف إصدار صحيفته. وفي عام 1927، انتخب نقيباً للصحافيين اللبنانيين. وفي عام 1933، مثل لبنان في أربعينية الملك فيصل الأول في بغداد، وفي عام 1932، انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق. وفي الرابع من يونيو عام 1961م، بويع الأخطل الصغير خلفاً للشاعر أحمد شوقي أميراً للشعراء، وذلك في احتفالية مهرجانية ضخمة في قصر اليونسكو ببيروت، وحينها ألقى قصيدة مؤثرة استهلها بقوله:
اليوم أصبحت لا شمسي ولا قمري
من ذا يغني على عود بلا وتر
اتخذ لقب “الأخطل الصغير” تيمناً بالأخطل الأموي الذي كان يدعو إلى الخلافة الأموية فأراد هو أن يتشبه به ويدعو إلى قيام الدولة العربية، فمنذ الحرب العالمية أخذ يوقع قصائده بهذا الاسم المستعار مخافة أن تصل إليه أيدي وأذرع الدولة العثمانية وتقبض عليه وهو القائل:
ألجم لسانك ألجم فالموت للمتكلم
لا يسألونك إن أخذت أثمت أم لم تأثم
اعتبر النقاد الشاعر الخوري من شعراء الرعيل الكبير، فهو شاعر مجالس الغزل التي أعاد إليها صور الموشحات الجذلة ذات الموسيقى الطروبة الحنونة. فالغزل عنده مفهوم حسي يسرع إليه في كل مكان، فحين يكون الجمال يهرع إليه ويستجيب لمفرداته أيما استجابة، بل ويطير وجدانه إليه وكل مشاعره ترنو إليه، ولك أن تسمعه وهو يقول:
قل لمن لام في الهوى وهكذا الحسن قد أمر
إن عشقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر
كما نقرأ له من أروع قصائده “الهوى والشباب”:
الهوى والشباب والأمل المنشود
ضاعت جميعها من يديا
يا أيها الخافق المعذب يا قلبي
نزحت الدموع من مقلتيا
أأنا العاشق الوحيد لتلقى
تبعات الهوى على كتفيا
كان الراحل يركز في تجربته الإبداعية على التقاط لحظات العشق المريرة التي لا بد من أن يمر تحت أقواسها كل من خفق قلبه لطلة عذراء أو آهة امرأة أغرمت برجل، أو كل من يحلم بملاقاة حبيبة يرسم ظلالها في المخيلة العطشى، فشاعرنا بصير العين، خفيف القلب والظل، يعشق الجمال أينما وجد والغزل عنده تلون بإيقاع روح عصره، إذ قلما نقرأ قصيدة للأخطل تخلو من ورد يتفتح ونهر يترنم ونجم يضيء، لذا كان غزله ناعماً شفيفاً محبباً بهيجاً كما في قوله:
أنا الذي غنى الجمال بشعره
وحنا عليه سافراً وملثماً
في كثير من الأحوال كان شعر الأخطل الغزلي لا يخلو من الضراعة والتذلل، إذ يظهر من خلال هذا الشعر أنه الإنسان المتيم القتيل في حب المرأة التي عشقها بعد أن اجتاحت حياته على حين غرة وفي ذلك يقول:
بلغوها إذا أتيتم حماها
أنني مت من الغرام فداها
واصحبوها لتربتي فعظامي
تشتهي أن تدوسها قدماها
لكن بشارة الخوري في الحقيقة ليس شاعر الهوى والشباب فحسب، فقد كان صاحب حس وطني صادق، فقد التزم بقضايا أمته ووطنه التزاما صريحاً وجريئاً في ذات الوقت، فلقد عشق لبنان وشغف كثيراً على إظهار عروبته في كل مناسبة، لا سيما في عيد استقلال لبنان في احتفالات عام 1952، مؤكداً على عروبة هذا البلد أرضاً وشعباً ودوره الفاعل في المشاركة في كافة القضايا والتحديات التي تواجهها الأمة العربية:
عرس أهازيجه حمر وكؤوسه
يرويك مغتبقاً منها ومصطحباً
وحينما فقدت مصر سعد زغلول ربط الأخطل الصغير بين عروبة مصر ولبنان فقال:
من مبلغ مصر عنا ما نكابده
إن العروبة فيما بيننا ذمم
لم تقتصر هموم شاعرنا على الوطن الصغير بل تعدته لتشمل دنيا العرب بأسرها، فالأخطل لم يكن بعيداً عن التفكير القومي وعن الإحساس بالانتماء إلى أمة عربية واحدة. من هنا عمد في شعره وقصائده إلى محاربة التجزئة مطالباً غير مرة بإزالة الحواجز بين الأقطار العربية، ولهذا جسد إحساساً عربياً خالصاً وعبر عن انتمائه القومي في أكثر من مناسبة واحتفال. إن قصيدته “وردة من دمنا” في مشاركته في الثورة الفلسطينية تعتبر أكثر من شاهد على صدق إحساسه القومي حيث وحدت الآلام العربية وذلك من قوله:
إن جرحاً سال من جبهتها
لثمته بخشوع شفتانا
نحن يا أخت على العهد الذي
قد رضعناه من المهد كلانا
أما الوحدة العربية فقد دعا إليها الشاعر بشارة في وقت عزت فيه الوحدة وعزت فيه المنعة.. كانت الدول العربية مغلوبة على أمرها ترزح تحت نير وجبروت الاستعمار الأجنبي، لكنه ظل يؤكد على مقومات هذه الوحدة من اللغة والتاريخ والهم المشترك ووحدة الأصل وقال معبراً عن ذلك:
ضجت الصحراء تشكو عربها
فكسونا زئيراً ودخاناً
لقد جسد شعر الأخطل الأحداث السياسية، وعكس طموح الشاعر إلى الحرية والعدالة والتقدم، وللشاعر مواقف وطنية وشعرية جريئة، فعندما رحل صديقه وديع حداد، حضر تأبينه حشد من رجال السياسة والمندوب السامي الفرنسي، فوقف الشاعر على المنبر يرثي صديقه بقصيدة مطلعها:
قل للوديع أفي جوارك منزل
بين القبور لأمة وبلادي
القبر إن عقَ البلاد رجالها
وتبدلت بالأصدقاء أعادي
وهوت إلى الدرك السحيق وقادها
في الغي شرذمة من الأوغاد
وحينها هجم عليه رجال الأمن وأنزلوه بالقوة عن المنبر، لكن جمهوره ومريدوه أنقذوه وعاد إلى المنبر وأكمل قصيدته وسط تصفيق حاد.
وحينما رحل الزعيم المصري سعد زغلول، كتب الأخطل قصيدة مؤثرة رثاه من خلالها وجاء فيها:
قالوا دهت مصر دهياء فقلت لهم
هل غيض النيل أم زلزل الهرم
قالوا أشد وأدهى قلت ويحكم
إذن لقد مات سعد وانطوى العلم
لم لا تقولون إن العرب قاطبة
تيتموا كان زغلول أباً لهم
وللشاعر الكثير من القصائد في بلده (لبنان) ومنها هذه القصيدة التي ننتقي منها أبياتاً بعينها وهي بعنوان “لبنان عيد ما أرى”:
لبنان عيد ما أرى أم مأتم
لله أنت وجرحك المبتسم
عصروا دموعك وهي جمر لاذع
يتنورون بها وصحبك مظلم
لبنان يا بلد المحبة والوفا
حلم وهل غير الطفولة حلم
هذا حصيرك والحبيبات التي
كانت غذاءك واللحاف المبهم