نقلاً عن
نادي المال والاعمال - الشريعه دين ودنيا : أساس التمويل الإسلامي هو الشريعة الإسلامية بمصادرها الأربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. المصدر الأخير (القياس) يوفر أدوات التصدي للمسائل والمستجدات المعاصرة – وخاصة ما يعتبر منها محل خلاف في النظرية أم التطبيق- وتكييفها ومطالب الشريعة.
القياس لغة هو التقدير، إذ يقال قاس المسألة بغيرها أو على غيرها أي قدرها على مثالها ونظيرها. وفي الشرع، يعرف القياس بأنه "رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم" أو "حمل فرع على أصل في حكم لعلة جامعة بينهما". وإذا ما بحثنا في القواعد الشرعية، لوجدنا قاعدتين أساسيتين تؤطران العمل بمصادر الشريعة الأربعة: فالأصل في العبادات التحريم أو الحظر إلا ما ورد عن الشارع إجازته وتحليله. أما الأصل في المعاملات فهو الإباحة. والمعاملات هي ما يجري بين المتعاقدين كالبائع والمشتري والمؤجر والمستأجر والشركاء ومن سواهم. فهذه العقود مباحة لا يجوز القول بتحريمها إلا بوجود دليل صحيح. فإذا لم يرد في الشريعة نص صريح بالمنع، تبقى المعاملة على أصلها، أي الإباحة. ودليل ذلك قوله تعالى: "وأحل الله البيع وحرم الربا" (البقرة 275). فكل صور البيوع في الجملة واردة في التعامل إلا ما جاء به دليل تحريم. فإذا استجدت حالة لا سابقة لها من المعاملات في التشريع الإسلامي، فمبدأ القول فيها إباحتها ما لم يرد دليل مباشر أو غير مباشر على تحريمها.
وعلى العموم، تحرم المعاملات إذا اشتملت على- أو شابها- واحد أو أكثر من دواعي التحريم: التحريم لعلتها (كبيع الخمر) والتحريم لعلة خارجة عنها (كأن يشوبها عنصر محرم كالربا والغرر والميسر والرشوة والاختلاس والاحتكار، إلخ)، والتحريم لعدم مشروعية العقد الذي بنيت عليه المعاملة أو عدم اكتمال أركانه الشرعية.
ومن هنا لا بد من التخلص من عناصر التحريم في المعاملات التجارية والمالية للتحقق من التزامها بأحكام الشريعة وإجازتها. لكن قبل أن نستعرض دور القياس في إثراء قاعدة المنتجات المالية الإسلامية وتوسيعها، لا بد لنا من العودة إلى أسس تصنيف المنتجات ورؤية الشريعة لها.
التمويل الإسلامي: علة الوجود
تعود نشأة التمويل الإسلامي بشكله المعاصر إلى سبعينيات القرن المنصرم، حيث جاء استجابة لدواعي التحريم في الشريعة الإسلامية. فالعناصر التي يجمع العلماء على تحريمها إنما ورد فيها نص صريح في القرآن أو السنة وهي: الربا والغرر الفاحش والميسر . إذ إن الشريعة تنكر اعتبار المال سلعة أو استخدامه في توليد المال من خلال الإقراض. وتحظر بالتالي قبض الفائدة أو دفعها بصورة قاطعة لا لبس فيها. ويسري ذلك على الغرر الفاحش الذي ينشأ عن امتلاك أحد الطرفين المتعاقدين لمعلومات حول محل العقد أو الثمن المسمى لا تتوفر للطرف الآخر مما يحرم الأخير حقه في الإحاطة الوافية بتلك التفاصيل قبل المضي في تنفيذ العقد. كما أن الميسر – وهو أيضاً من وجوه الغرر- يعتبر من مصادر الكسب غير المشروع لأنه مقامرة بالمال لتحقيق الكسب دون بذل جهد أو تقديم مقابل (فالمبلغ المقامر به لا يعد استثماراً، لأنه يفتقد إلى أركان الاستثمار المشروع).
المعاملات في منظور الشريعة
يمكن تقسيم المعاملات في الرؤية الشرعية إلى ثلاثة فئات:
- المعاملات القائمة على أدوات التمويل الإسلامي التي استقر العمل بها منذ عهد الإسلام الأول: المرابحة والمضاربة والمشاركة والاستصناع والسلم، إلخ. هذا النوع من المعاملات يقره جمهور الفقهاء من المذاهب الإسلامية المختلفة مع بعض الفروقات في التفاصيل والأحكام الفرعية.
- المعاملات التي تعتبر تقليدية المنشأ لكنها لا تثير تعارضاً مع أحكام الشريعة الإسلامية في شكلها وجوهرها. ومثالها مشروعات رأس المال المخاطرة وإدارة محافظ الاستثمار والصناديق الاستثمارية والأوراق التجارية والأسهم والودائع أو الحسابات المصرفية.
- المعاملات التي تخرج بصورتها الراهنة عن الأسس الشرعية من قبيل السندات والمشتقات المالية (العقود المستقبلية والآجلة وحقوق الاختيار والمبادلات المؤقتة). لكن ثمة بدائل مكيفة شرعاً تعمل بآليات مشابهة لتلك التقليدية لكن على نحو تنتفي فيه مصادر التحريم.
تحري عامل الالتزام بأحكام الشريعة
يقوم التمويل الإسلامي على قواعد وأحكام لا تفصل بين الحياة والدين. ذلك أن أحكام الشريعة ومبادئها لا تقتصر على جانب العبادات وإنما تتناول أيضاً شؤون النشاط التجاري والمالي أو جانب المعاملات. فالنقد في الرؤية الشرعية، على سبيل المثال، يعتبر وسيطاً للتداول ووسيلة لأداء الحقوق المالية، لا سلعة تدفع لمن يحتاجها لقاء أجر. وليس للنقد قيمة زمنية تميزه عن قيمة السلع التي يجري تداولها والاتجار بها باستخدام النقد كوسيط. وبالتالي فإن التمويل الإسلامي يرتكز على مبدأ تشارك الأرباح والخسائر، الذي ينبني بدوره على مفاهيم مستمدة من المبادئ والمقررات الشرعية ومثالها مفهوم "الغرم بالغرم" ومفهوم "الخراج بالضمان". فالمنتفع بالشيء ينبغي أن يتحمل تكاليفه، والضامن يستحق الغلة أو المنفعة أو الربح. لذلك ينكر الفقه الإسلامي اعتبار الفائدة تكلفة للمال، ويحرم تطبيقها في معاملات التمويل والاستثمار.
كما أن التمويل الإسلامي لا يقر العائد المحدد كنسبة ثابتة من رأس المال. فعوضاً عن ذلك، لا بد من تأسيس المعاملات المالية والمصرفية على صيغة من مشاركة الأرباح. هذه الصيغة نجدها في المضاربة، وهي الشراكة بين رأس المال والعمل.
كما أنها متوفرة في أداة تمويل أخرى هي الشركة، أو خلط الأموال، التي تنعقد لتوظيف المال في مشاريع حقيقية تعود على الشركاء بالكسب الحلال. هذه المعاملات التجارية ينبغي اختيارها على أساس إنتاجيتها ومردودها، لا ضمان رأس المال فيها.
الفئتان الأخيرتان من فئات المعاملات نجدهما في العمل المصرفي. فالمصارف الإسلامية كنظيرتها التقليدية تحصل على الودائع من ثلاثة مصادر: حسابات الادخار والحسابات الجارية وأموال أصحاب حسابات الاستثمار (الودائع الاستثمارية). لكن هذه المصادر في التكييف الشرعي ترد في عدد من الصيغ. فالحسابات الجارية تأخذ صيغة الأمانة أو القرض الحسن. أما حسابات الادخار فتعامل معاملة الوديعة بأن يفوض المودعون المصرف باستثمار تلك الأموال بالنيابة عنهم إما بفصلها عن غيرها أو بخلطها بأموال الاستثمارات الأخرى. وأخيراً، فإن الودائع الاستثمارية – وهي المعادل الإسلامي للودائع الآجلة في المصارف التقليدية- فتوظف في حسابات مشاركة الأرباح والخسائر سواء ما انتهج منها صيغة المضاربة المقيدة أم المضاربة المطلقة. وبذلك فإن طبيعة العلاقة بين المصرف الإسلامي والعميل تكتسب خصوصية تميزها عما استقر عليه العمل المصرفي التقليدي. هذه العلاقة تخلق عند المصارف الإسلامية الدافع لاختيار الاستثمارات المنتجة التي تولد أفضل معدلات العائد لها ولعملائها. فالتمويل الإسلامي لا يسلم بوجود ما يسمى بالأصول مضمونة العائد (أو الخالية من المخاطرة) سيراً على قاعدة الغنم بالغرم آنفة الذكر.
ومن ناحية أخرى، ليس ثمة اختلافات جوهرية بين الصيرفة الاستثمارية التقليدية والإسلامية من حيث المنتجات والخدمات المتاحة. إذ أن الوسائل والأدوات التي تعتمدها الصيرفة الاستثمارية التقليدية لا تثير مسائل الخروج على أحكام الشريعة ومبادئها وبالتالي فالأولى فيها الإباحة. ومثال تلك الوسائل والأدوات: إدارة محافظ الاستثمار وصناديق الاستثمار والعهد ومؤشرات الأسهم والتمويل المدعوم بأصول حقيقية وغيرها. أما الفارق الأساسي فيتمثل في أن المصارف الإسلامية مطالبة بتحري مصادر الكسب المشروع الحلال في اختيار استثماراتها.
كما أن هناك شبه كبير بين الاستثمار التقليدي والاستثمار الإسلامي في مشاريع رأسمال المخاطرة أو المشاريع الناشئة. إذ يعتبر تمويل تلك المشاريع في أولى مراحلها خير مثال عن أسلوب التمويل بالمضاربة، خاصة على ضوء العلاقة بين صاحب المشروع (رب المال، باذل رأس المال) والقائم على المشروع (المضارب، باذل العمل) من جهة، وجواز اشتراط المستثمرين (الممولين) لطريقة توظيف تلك الأموال وتثميرها. وعليه، فإن عنصر الإباحة في هذا الشكل من الاستثمارات هو الأصل، مع ضرورة تحري الاستخدامات المشروعة للأموال المستثمرة.