نقلاً عن
نادي المال والاعمال - الجزائر : من يتوقف عند الحركة الاحتجاجية التي عاشتها الجزائر في الأسبوع الأول من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري يجد نفسه أمام مفارقة عجيبة قادتها شبان مهمشون ومطالبها تخفيض أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية للعائلات الجزائرية.
ومن يتأمل خريطتها الجغرافية والسكانية يجد أنها شملت 40% من ولايات القطر الجزائري (19 ولاية من 48 ولاية)، وخاصة الولايات الأكثر كثافة سكانية مثل العاصمة وسطيف وعنابة ووهران.
والسؤال الجوهري هو: هل خمس ليال (الاثنين-الجمعة) كافية لتعبئة الشبان للقيام بالتخريب والتكسير والصدام مع قوات مكافحة الشغب، ولماذا تكتم وسائل الإعلام الرسمية حول ما جرى؟
من سيخلف الرئيس؟
الهاجس الأول لأصحاب القرار في الجزائر يكمن في من يخلف الرئيس؟ فالكل متفق على أن رحيل بوتفليقة قد يؤدي إلى أزمة سياسية شبيهة بأزمة توقيف المسار الانتخابي في 11 يناير/ كانون الثاني 1992
منذ تعديل الدستور الجزائري وإلغاء البند المتعلق بتجديد العهدة مرتين وتحويل صلاحيات الوزير الأول إلى رئيس الجمهورية، بدأ البرلمان يفقد مصداقيته في الشارع الجزائري مما جعل الرئيس يلجأ إلى رفع الرواتب إلى 30 مليون سنتيم (3500 دولار)، وتعميم رفع الرواتب على الموظفين الساميين، مع الإبقاء على الأجور لدى الطبقة الوسطى في أدنى مستوياتها، أي ما بين (150 و250 دولارا)، وأدى هذا الإجراء إلى صراع داخل الأحزاب حول الترشح للاستحقاقات القادمة، كما أن الإعلان عن تخصيص 286 مليار دولار لاستثمارات العهدة الثالثة جعل التنافس حول الصفقات يتحول إلى صراع أجنحة أطاح ببعض الوزراء.
ولجأ كبار رجال الأعمال الجزائريين إلى توظيف الضباط المتقاعدين في مؤسساتهم لاستغلالهم في الحصول على الصفقات، وبدأ التخوف لدى المستفيدين من الوضع القائم حول من يخلف الرئيس ليضمن لهم "حماية مصالحهم".
البعض يرى أن المؤهل لهذا المنصب هو شقيق الرئيس باعتباره الأقرب إليهم، فلجأ إلى ترويج الشائعات ثم محاولة جس نبض الشارع بإلقاء أول بالون اختبار رسمي وهي إعلان رئيس لجان مساندة الرئيس بو تفليقة عن نية اللجان في ترشيح شقيقه لرئاسيات 2014 مما أربك أحزاب التحالف الرئاسي، إلا أن المفاجأة أن السيد أحمد العياشي كذب نفسه في اليوم التالي في الصفحة الأولى من جريدة (الجزائر نيوز) نفسها زاعما أن الاقتراح من بنات أفكاره.
وبالمقابل، يرى آخرون أن أحمد أو يحيى (الوزير الأول ورئيس حزب التجمع الوطني) هو الكفيل بضمان مصالحهم، خاصة وأنه محسوب على النظام، وهو أول جزائري يتقلد رئاسة الحكومة ثلاث مرات، مرة في عهد الرئيس اليامين زروال، ومرتين في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وهو الذي أطلق على نفسه عبارة "رجل المهمات القذرة".
والخلاف الجوهري بين وجهتي نظر الطرفين مرتبط بـ (المنطق الجهوي للسلطة) فهناك من لا يريد نقل السلطة من الغرب إلى الوسط بعد أن انتزعها من الشرق، وهناك من يرى أن المنطقة القبائلية هي التي يجب الرجوع إليها بعد حكم منطقة الشاوية والعرب.
وعلى المستوى السياسي، فإن هناك صراعا آخر بين التيار اللائكي والتيار الوطني الإسلامي فالأول يتخوف من المصالحة الوطنية لأنها أعادت الاعتبار للتيار الإسلامي، وازداد تخوفه حين قرر الرئيس تخصيص عشرة مليارات دولار لبناء تلمسان كعاصمة للثقافة الإسلامية، وبناء أكبر مسجد في العاصمة الجزائرية، إلى جانب دعمه الشخصي للزوايا ورجالاتها.
إن الهاجس الأول لأصحاب القرار بالجزائر يكمن في من يخلف الرئيس؟ ، فالكل متفق على أن رحيل بوتفليقة قد يؤدي إلى أزمة سياسية شبيهة بأزمة توقيف المسار الانتخابي في 11 يناير/ كانون الثاني 1992.
التقارير الأمنية حذرت السلطة
وفي ظل هذا الخلاف حاول أحمد أو يحيى الوزير الأول الحالي أن يظهر قوته بمنع البنوك من تمويل شراء السيارات، وبسط قبضته على السوق الجزائرية بفرض ضرائب جديدة وإجبار التجار على التعامل بالفواتير والصكوك البنكية، مما أثار مخاوف أطراف أخرى في السلطة الموازية لسلطة الحكومة.
وتلقت وزارة الداخلية خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي تقارير أمنية عن الأشهر العشرة الماضية تشير إلى وجود موجة احتجاجات شعبية تستدعي التدخل لوضع حد لها، وفعلا سجلت خلال تلك الفترة 480 حركة احتجاجية، خلفت تكسير 42 مرفقا عموميا، وقد مست هذه الحركات الاحتجاجية، الأحياء الشعبية وخاصة أكواخ الصفيح ممن نزحوا إلى ضواحي المدن الكبرى بسبب أزمة (1992–1999).
كانت سنة 2010 رمزا للفساد والجريمة، بحيث أدت فضيحة (مؤسسة سوناطراك)، إلى إقالة السيد شكيب خليل من وزارة الطاقة والمناجم وهو المحسوب على طاقم الرئيس، وأدى مقتل العقيد علي تونسي المدير العام للأمن الوطني بمكتبه، إلى إبعاد السيد يزيد زرهوني وزير الداخلية ثم تعيينه نائبا للوزير الأول.
سجلت حركة الاحتجاجات على مدى عشرة أشهر 480حركة احتجاجية، خلفت تكسير 42 مرفقا عموميا، وقد مست هذه الحركات الاحتجاجية، الأحياء الشعبية وخاصة أكواخ الصفيح ممن نزحوا إلى ضواحي المدن الكبرى " .
وعندما يجبر الرئيس على إقالة الوزراء المحسوبين عليه أو تغييرهم من مناصبهم بسبب الفضائح يؤشر ذلك بوضوح إلى الصراع الموجود داخل السلطة، ففضائح الفساد توسعت من تحويل المال العام إلى الاستغلال البشع للمال العام (فنقص البطاطا مثلا أدى إلى استيراد أنواع من البطاطا رفض المواطن الجزائري استهلاكها، كما أن إنفلونزا الخنازير، جعلت الحكومة تهدر 25 مليون دولار على لقاح لم يستعمل).
وتشير تقارير الدرك الوطني لشهر أكتوبر/ تشرين الأول من السنة الماضية إلى أن تجارة الأسلحة والجرائم الاقتصادية شملت 13000 موقوف، منهم 400 إمرأة، و265 قاصرا، في حين ارتفع عدد القضايا المرتبطة بالسرقة إلى 1018 قضية، وبلغ عدد المتهمين 2123 منهم 827 متهما أودعوا السجن.
وإذا أضفنا قائمة "الحراقة" من الشباب إلى من فضلوا خوض غمار البحر للانتقال للضفة الأخرى وعدد ضحاياهم ومحاكمة من نجا منهم من الموت، فإن حالات التذمر سترتفع، فالتقارير الفرنسية لعام 2010 تقول بأن عدد المهاجرين الجزائريين إلى فرنسا قد أصبح يشكل 7% من سكان الجزائر.
تغييب المعارضة
منذ مجيء الرئيس عبد العزيز بو تفليقة، في 16 مارس/ آذار 1999 لغاية يناير/ كانون الثاني 2011 لم يُعتمد حزب واحد، واستمر العمل بحالة الطوارئ التي بدأت في 11 يناير/ كانون الثاني 1992، بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، والأحزاب السياسية المعتمدة أصيبت بما يسمى بعدوى (الحركة التصحيحية) منذ رئاسيات 2004 إلى غاية اليوم، بحيث بدأت بجبهة التحرير الوطني، ثم حركة الإصلاح فحركة مجتمع السلم والنتيجة هي التفاف جميع الأحزاب حول برنامج الرئيس باستثناء حزبي جبهة القوى الاشتراكية بزعامة حسين آيت أحمد وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية بزعامة سعيد سعدي، وانتهى دور المعارضة في الساحة السياسية والتنافس الحزبي، باعتبار أن النظام الجزائري ليس نظاما رئاسيا ولا برلمانيا.
لقد كان محفوظ نحناح رئيس حركة حماس (يرحمه الله)، يحمل شعار "نحن في الحكومة ولسنا في الحكم"، وهذا الشعار ينطبق تماما على وزراء الأحزاب في الحكومة الحالية.
بوادر الانفجار
يرى خبراء في الشأن الجزائري، بأن التغيير عبر صناديق الاقتراع مستبعد لأن السلطة بأيدي أصحاب القرار وليس بإرادة الشعب، وممارسة الضغط على الرئيس تكون عبر الشارع، وباعتبار أن هناك أكثر من خمسة ملايين ملف طلبات سكن على مستوى 1541 بلدية وأن الأكواخ والبيوت القصديرية التي تم القضاء عليها في عهد الشاذلي بن جديد عام 1984 عادت بسبب الأزمة الأمنية 1992–1999، ومادام في برنامج الرئيس مشروع المليون سكن فإن دفع سكان هذه الأحياء الشعبية إلى المطالبة بحقهم في السكن قد يكون عامل تأثير على القرار السياسي، خاصة وأن شعبية الرئيس ارتفعت بعد مباراة الجزائر ومصر بأم درمان بالسودان.
عدم تحكم السلطة في السوق الموازية أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية بسبب المضاربة في الأسعار، وكانت الخطوة التي حركت عربة الانفجار وأوعزت هذه الجهات إلى الوزير الأول باتخاذ خطوات لحماية الاقتصاد ومحاربة تجار "الشنطة"، الذين يمثلون 25.6%، ومطالبة المستوردين وتجار الجملة بالتعامل بالصكوك البنكية والفواتير، حتى تتصدى السلطة لمن يتهرب من دفع الضرائب، بعد أن تعرضت البنوك لأزمة نقص السيولة النقدية، وقامت وزارة الداخلية بمحاربة تجار الأرصفة، فارتفعت نسبة البطالة التي تقدرها الحكومة بـ 09.2%.
إن عدم تحكم السلطة في السوق الموازية أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية بسبب المضاربة في الأسعار، وكانت الخطوة التي حركت عربة الانفجار.والمفارقة أن السلطة تراجعت عن قراراتها، وأعطت شرعية للتهرب الضريبي، ومنحت للشارع سلطة تغيير القانون دون العودة إلى البرلمان.
تداعيات وآفاق
تمثل الحركة الاحتجاجية مرحلة جديدة من مراحل الاحتجاجات الشعبية في الجزائر التي بدأت يوم 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1988، وحققت أهدافا تمثلت في إلغاء مشروع الوحدة بين الجزائر وليبيا، وكادت أن تؤدي إلى عدم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية.
ومكنت السلطات من تجديد وجودها في السلطة عبر تعددية حزبية وإعلامية أجمعت الدراسات على أنها شكلية.تختلف الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في 3 يناير/ كانون الثاني بالجزائر هذا العام عن آخر حركة احتجاجية وقعت في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2010، فالحركات الاحتجاجية الماضية كانت تجري في النهار ويشارك فيها المواطنون بمختلف أعمارهم.
أما الحركة الجديدة فقد انطلقت بعد صلاة العشاء لغاية الفجر، بحيث دامت خمس ليال، ليلتين في حي البريجة باسطاوالي على مشارف الإقامات الرسمية للحكومة الجزائرية، وتوسعت لتشمل 19 ولاية منها ولايتان من الغرب الجزائري، بينما بقية الولايات من الوسط والشرق والجنوب، فهل نستطيع القول بأن هناك بعدا جهويا وراءها؟
من الصعب التكهن بنتائج الحركة باعتبار أن أحزابا محظورة أرادت احتواءها، وباعتبار أن أحزاب السلطة حاولت هي الأخرى إعطاءها شرعية لاستمالتها نحوها.
من الصعب التكهن بنتائج الحركة الاحتجاجية باعتبار أن أحزابا محظورة أرادت احتواءها وباعتبار أن أحزاب السلطة حاولت هي الأخرى إعطاءها شرعية لاستمالتها نحوها.
ورأت فيها السلطة نزعة "انتقامية" في حين رأت فيها أحزاب السلطة "تشويها لصورة الجزائر" والكل يحاول إخفاء مصدر الصراع الحقيقي الذي يقف وراء هذه الحركة الاحتجاجية، كملفات الفساد التي فتحتها مصالح الأمن العسكري واللجنة الوطنية لمكافحة الفساد التي أنشأتها الرئاسة.
وإذا كانت الحركة الاحتجاجية قد خلفت ثلاثة قتلى وإصابة 763 شرطيا و63 مدنيا، حسب تصريح وزير الداخلية والجماعات المحلية، فإن عدد الموقوفين والمتابعين قضائيا يعد بالآلاف، والتخوفات هو أن تتكرر هذه الحركة الاحتجاجية بعد انتهاء فترة تجميد الأسعار والتي أقرت لمدة ثمانية أشهر.
ويتوقع المراقبون أن يبادر الرئيس الجزائري إلى إصدار عفو لصالح الموقوفين أو المتهمين في هذه الحركة الاحتجاجية سعيا إلى إطفاء حريقها الذي لا يزال رماده ساخنا.