نقلاً عن
نادي المال والاعمال - الرياض : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول: " إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: عاجل أمري وآجله – فاقدره لي ، ويسِّره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: في عاجل أمري وآجله– فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم أرضني به" قال: ويسمي حاجته.
فيــه فـوائد:
1- هذا الحديث أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من "صحيحه" : في التهجد –باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى 1162، وفي الدعوات –باب الدعاء عند الاستخارة (6382) ، وفي التوحيد –باب قول الله تعالى (( قل هو القادر )) [7390].
وأخرجه: أحمد 3/344 ، وأبو داود ( 1538) والترمذي 480 ، والنسائي 3253 ، وابن ماجه 1383 .
كلهم من طريق عبد ا لرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
والحديث له شواهد أشار إليها ابن حجر" في الفتح 1" 1/184 وقال:" ليس في شيء منها ذكر الصلاة سوى حديث جابر، إلا أن لفظ أبي أيوب: "أكتم الخطبة وتوضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك))، فالتقييد بركعتين خاص بحديث جابر"
قلت: حديث أبي أيوب: أخرجه أحمد 5/423 ، والطبراني 4/3901 وابن حبان 4040 ، والحاكم 1/314 ، والبيهقي 7/147 وإسناده لا بأس به.
2- الاستخارة لغة: طلب الخير في الشيء ، يقال :استخر الله يخر لك(1).
واصطلاحاً: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما من الله جل وعلا.
3- فيه دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة: وأنه متأكد مرغب فيه، لقوله "كما يعلمنا السورة من القرآن ".
قال العراقي : " ولم أجد من قال بوجوب الاستخارة مستدلاً بتشبيه ذلك بتعليم السورة من القرآن، كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود:" كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ".
قال: ومما يدل على عدم وجوب الاستخارة: الأحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة في الخمس من قوله: "هل علي غيرها ؟ قال: لا إلا أن تطوع " وغير ذلك (2).
والحكمة من مشروعيتها: التسليم لأمر الله ، والخروج من الحول والطول ، والالتجاء إليه سبحانه ، للجمع بين خيري الدنيا والآخرة، ويحتاج في هذا إلى قرع باب الملك ، ولاشيء أنجع لذلك من الصلاة والدعاء ، لما فيهما من تعظيم الله ، والثناء عليه ، والافتقار إليه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة ، لما فيها من التعلق بالله وسؤاله ودعائه وخوفه ورجائه (3).
4- استحب بعض العلماء تقديم الاستشارة على الاستخارة ، قال النووي رحمه الله: "يستحب أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النصيحة والشفقة والخبرة ، ويثق بدينه ومعرفته، قال تعالى: (وشاورهم في الأمر)، وإذا استشار وظهر أنه مصلحة ، استخار الله تعالى في ذلك ".
قلت: والأمر في هذا واسع، إن قدم الاستشارة على الاستخارة فحسن، وإن قدم الاستخارة أولاً فلا بأس ، والمقصود هو الجمع بينهما.
قال ابن القيم :"وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ما ندم من استخار الخالق ، وشاور المخلوقين وثبت في أمره "(4).
5- فيه دليل على أن الاستخارة تكون عند الهم بالشيء ، لقوله " إذا هم أحدكم بالأمر ".
والهم: هو أول العزم على الفعل إذا أردته ولم تفعله ، وهو: عقد القلب على فعل شيء خير أو شر قبل أن يفعل (5).
بخلاف العزم فهو القصد المؤكد، يقال: عزمت علىكذا عَزَماً وعُزماً وعزيمة : إذا أردت فعله، وصممت عليه(6).
وحينئذ فينبغي أن يكون المستخير خالي الذهن ، غير عازم على أمر معين ، لأن قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث " إذا هَّم" يشير إلى أن الاستخارة تكون عند أول مايرد على القلب ، فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ماهو الخير ، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده ، وقويت عليه عزيمته وإرادته ، فإنه يصير إليه ميل وحب ، فيخشى أن يخفى عليه الرشاد لغلبة ميله إلى ما عزم عليه(7).
وفي "الاقناع مع شرحه": "ولا يكون -يعني المستخير– وقت الاستخارة عازماً على الأمر الذي يستخير فيه"(8).
6- قال العلماء:والاستخارة تكون في الأمور التي لايدري العبد وجه الصواب فيها، أما ماهو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف،أو معروف شره كالمعاصي والمنكرات فإنه لاحاجة إلى الاستخارة فيها، إلا إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحج مثلاً في هذه السنة، لاحتمال عدو أو فتنة، والرفقة فيه،أيرافق فلاناً أم لا؟(9).
قال الشوكاني رحمه الله: " قوله في الأمور كلها" دليل على العموم ، وأن المرء لا يحتقر أمراً لصغره وعدم الأهتمام به فيترك الاستخارة فيه ، فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله"(10).
وحينئذ فتشرع الاستخارة لمن أراد خطبة امرأة ، أو شراء سيارة ، أو شراء بيت، أو الدخول في صفقة تجارية ، وما أشبه ذلك.
7- أن السنة في الاستخارة كونها ركعتين ، لقوله " فليركع ركعتين من غير الفريضة " وحينئذٍ فلا تجزئ الركعة الواحدة.
وأجاز بعض العلماء الزيادة على الركعتين ، لحديث أبي أيوب: (صل ماكتب الله لك).
قال ابن حجر :" والظاهر أنه يشترط إذا أراد أن يسلم من كل ركعتين ليحصل مسمى ركعتين، ولا يجزئ لو صلى أربعاً مثلاً بتسليمة ، وكلام النووي يشعر بالإجزاء "(12).
قلت : الأفضل والأكمل الاقتصار على ماورد في الحديث وهو صلاة ركعتين فقط ، ويكون مقيداً للإطلاق في حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
وهل يجزئ لو دعا بدعاء الاستخارة عقب راتبة الظهر مثلاً ، أو غيرها من النوافل كتحية المسجد ؟
ظاهر كلام النووي رحمه الله الإجزاء (13).
وتعقبه ابن حجر فقال : "كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة مما أجزأ ، بخلاف ما إذا لم ينو ، ويفارق صلاة تحية المسجد ، لأن المراد بها شغل البقعة بالدعاء ، والمراد بصلاة الاستخارة أن يقع الدعاء عقبها أو فيها"(14).
وقال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله :" ولا يقال دعاء الاستخارة إذا صلى تحية المسجد أو الراتبة ولم ينوه من قبل ، لأن الحديث صريح بطلب صلاة الركعتين من أجل الاستخارة ، فإذا صلاهما بغير هذه النية لم يحصل الامتثال ، وأما إذا نوى الاستخارة قبل التحية ، والراتبة ثم دعا بدعاء الاستخارة فظاهر الحديث أن ذلك يجزئه ، لقوله : "فليركع ركعتين من غير الفريضة " فإنه لم يستثن سوى الفريضة ، ويحتمل أن لايجزئه ، لأن قوله : "إذا هم فليركع" يدل على أنه لا سبب لهاتين الركعتين سوى الاستخارة ، والأولى عندي أن يركع ركعتين مستقلتين ، لأن هذا الاحتمال قائم ، وتخصيص الفريضة بالاستثناء قد يكون المراد به أن يتطوع بركعتين ، فكأنه قال : فليتطوع بركعتين، والله أعلم(15).
8- لم يرد في الحديث تعيين مايقرأ به في هاتين الركعتين . قال الزين العراقي رحمه الله:
"لم أجد في شيء من طرق الحديث مايقرأ في ركعتي الاستخارة".
واستحب النووي رحمه الله أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد)(16).
قال العراقي:" ماذكره النووي مناسب ، لأنهما سورتا الاخلاص فناسب الإيتان بهما في صلاة المراد منها إخلاص الرغبة ، وصدق التفويض ، وإظهار العجز "(17).
واستحب بعض السلف أن يزيد على القراءة بعد الفاتحة في الركعة الأولى بقوله تعالى:
(وربك يخلق مايشاء ويختار ماكان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون * وربك يعلم ماتكن صدورهم ومايعلنون * وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ) الآيات في سورة القصص وفي الركعة الثانية بقوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا) الآية في سورة الاحزاب(18).
قال ابن حجر: "والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والاية الأوليين في الأولى والأخريين في الثانية ".
فكأنه رحمه الله رأى الجمع بين القولين ، لأنه مناسب وإن لم يرد.
9- ظاهر الحديث يدل على صلاة هاتين الركعتين حتى في أوقات النهي ، لاسيما إذا كان الأمر المستخار له يفوت ، أولا يمكن تأجيله إلى خروج وقت النهي. وأصحاب المذاهب على منعها في أوقات النهي (19).
10- ظاهر الحديث أن ا لدعاء يكون عقب الصلاة ، وهو قول الجمهور.
قال القرطبي :" ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام " ومثله قال الشوكاني(20).
وأجاز ابن حجر الدعاء في أثناء الصلاة في السجود أو بعد التشهد (21).
واختار شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله أن الدعاء يكون قبل السلام (22).
قلت: والأقرب قول الجمهور لظاهر الحديث.
*ويستحب أن يستقبل القبلة في دعاء الاستخارة ، وأن يرفع يديه،ويراعي جميع آداب الدعاء
وهل يفتتح الدعاء بالحمد والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب: استحب ذلك بعض أهل العلم ،
قال ابن عابدين: "ويستحب افتتاح الدعاء وختمه بالحمد له والصلاة" (23) وقال النووي: "ويستحب إفتتاح الدعاء المذكور، وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم)(24).
قلت: وقد يقال : إنه يقتصر على ماورد في الحديث من غير زيادة . والله أعلم
* ويستحب أن يكرر الدعاء ثلاثاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثاً.
11- علامة القبول هو انشراح الصدر ، والطمأنينة والسرور لما استُخير له.
فإن لم يظهر له شيء ، فقد قال العلماء رحمهم الله: "له أن يعيد الاستخارة مرة وثانية وثالثة وهكذا ، وأوصلها بعضهم إلى سبع مرات، استدلالاً بحديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه " و هذا الحديث –كما قال ابن حجر:"لو ثبت لكان هو المعتمد، لكن سنده واهٍ جداً "(25).
قال النووي رحمه الله : ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له ، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة ، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأساً ، وإلا فلا يكون مستخيراً لله بل يكون مستخيراً لهواه ، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة ، وفي التبرى من العلم والقدرة واثباتهما لله تعالى ، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ، ومن اختار نفسه)(26).
وفي قوله رحمه الله: "وقد يكون غير صادق مع الله في طلب الخيرة" ،إشارة إلى أنه ينبغي للمستخير أن يصدق مع الله في طلب الخيرة وأن يُظهر فقره وذله لربه جل وعلا ، فإن لم يظهر ذلك منه فربما لا يوافق ، أولا يظهر له باستخارته ما يريد ، وهذا قد يحدث لبعض الناس تجده يستخير وهو عازم على أمر من الأمور ، وإنما يريد فقط أن يأتي بسنة الاستخارة ، فحال هذا كما تقدم.
12- عموم الحديث يشمل الرجال والنساء في مشروعية الاستخارة ، فالمرأة كالرجل إذا همت بالأمر فإنها تستخير الله تعالى.
فإذا كانت معذورة بترك الصلاة ، كما لو كانت حائضاً أو نفساء واحتاجت الاستخارة ، فإنها تستقبل القبلة وترفع يديها وتدعو بهذا الدعاء من غير صلاة.
لاسيما إذا تقدم لها خاطب فإنها تستخير الله فيه ، وقد ثبت في "صحيح مسلم "في قصة زواج زينب بنت جحش برسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حديث أنس رضي الله عنه قال" لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدٍ فاذكرها عليَّ ، قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخِّمر عجينها ، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك ، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن …)(27).
قال النووي رحمه الله في شرحه :" وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا ؟ ثم قال: ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه صلى الله عليه وسلم"(28).
وقد بوب النسائي على هذا الحديث في (سننه) فقال: (باب صلاة المرأة إذا خطبت واستخارتها ربها)(29).
د. بندر بن نافع العبدلي
--------------------------------------------------------------------------------
(1)– "لسان العرب" ( 5/351).
(2)- "نيل الأوطار" (3/315).
(3)- "الموسوعة الفقهية" (3/242) بزيادة.
(4)- "الوابل الصيب" ص (175).
(5)- "التعريفات للجرجاني" ص (320) ، "والمصباح المنير" مادة (همم)).
(6)– "التعريفات مادة" :عزم.
(7)- "فتح الباري" (11/185)، " الموسوعة الفقهية " (3/243).
(8)– "كشاف القناع" (1/443).
(9)– "الموسوعة الفقهية" (3/242)، "الفتوحات الربانية" (1/347).
(10)– "نيل الأوطار" 3/315).
(11)– "تفسير القرطبي " 13/306).
(12)– "الفتح" (11/185).
(13)– "الأذكار" ص(179)
(14)– "الفتح" (11/185).
(15)– "مجموع الفتاوي" (14/322).
(16)- "الأذكار" ص(180).
(17)- "الفتوحات الربانية" (3/354).
(18)- "تفسير القرطبي" (13/307) والموسوعة الفقهية (3/245).
(19)- "الموسوعة الفقهية" (3/244).
(20)- "تفسير القرطبي" (13/307) نيل الأوطار (3/316).
(21)– "الفتح" (11/186).
(22– "مجموع الفتاوي" (23/2).
(23)– "حاشية ابن عابدين" (1/461).
(24)– "الأذكار" ص(179).
(25)- الفتح (11/187).
(26)– "نيل الأوطار" (3/317).
(27)– "صحيح مسلم" رقم (1428).
(28)– "شرح صحيح مسلم" (9/228).
(29)– "سنن النسائي" (6/79).