نقلاً عن
نادي المال والاعمال :
شَغَل الكاتب الكبير الأديب عبدالله عبدالرحمن الجفري – رحمه الله – المشهد الأدبي والحركة الثقافية في بلادنا نحو خمسة عقود، أضاء فيها بقلمه جمهرة من الصحف والمجلات وأغدق علينا كلماته الرومانسية وعباراته الرقيقة التي خرجت من قلبه المفعم بالمحبة ونفسه المضمخة بالأمل، ظل عبدالله الجفري أعواماً عديدة سيد الكتابة العاطفية، يسكب علينا كل صباح "ظلالاً" نتفيؤها من هجير الحياة وقسوتها. ينتمي عبدالله الجفري (1358 – 1429ه) إلى جيل القنطرة الذين نهلوا من جيل الرواد واستنزادوا من ثقافة البلاد العربية (مصر – الشام – العراق) فخرج الجفري مسلحاً بثقافات شتى لينبري للكتابة منذ ريعان شبابه ويقظان فؤاده فخف للكتابة الأدبية في صحافة تلك الحقبة حتى بات يُرْمَى بالأبصار وتمتد إليه الأعناق بفضل صدق عاطفته وحسن صياغته وتأنق عباراته.
خاض عبدالله الجفري بعدها غمار الصحافة فمن كاتب بها إلى محرر إلى مشرف على الصفحات الثقافية في أكثر من صحيفة حتى تسنم منصب مدير التحرير، شارك الراحل الجفري غمار الحياة الأدبية كاتباً للقصة القصيرة ثم دخل إلى عالم الرواية وحظي بجوائز عديدة. كل ذلك وعموده اليومي (ظلال) لا ينقطع عن قرائه على الرغم أنه قد حمله من صحيفة إلى أخرى وقراؤه ينتقلون خلفه بحثاً عن (ظلاله)، واليوم ونحن في أيام العيد السعيد نستذكر رحيله عنا في هذه الأيام قبل خمس سنوات لنقول له ومعي كوكبة من الأدباء والشعراء أنك مازلت في قلوبنا يا أبو وجدي أيها الحاضر في الأفئدة، رحم الله فارس الرومانسية صاحب القلب الأخضر العامر بحب الناس، وأنا هنا أتذكر وأردد هذا البيت.
يا كوكباً ما كان أقصر عمره
وكذاك عمر كواكب الأسحار
أولى كلمات الوفاء بثها صديقه الذي صفاه الود الشاعر المكي الأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي حيث جاءت كلماته تحمل حزناً وأسى على فراق صديق عمره فقال: إليك أيها الغائب الحاضر في كل وجدان محبيك في كل لحظة تمر نذكرك وأنت الحبيب الغالي الذي كان يظلنا بظلاله الوارفة، التي تركت حميم الأثر في نفوسنا لما فيها من مصداقية في المشاعر وشفافية في المعاني ورومانسية في التصوير والتعبير. ترى هل غاب عنا حبيبنا الجفري؟ ورحل بلا وداع لنا إلى جنات وارفة الظلال عند رب ذي الجلال، وترك فينا شوقاً يتحدد دائماً كل صباح حين لا نرى "ظلال" في مكانها في جريدة عكاظ وحين نعلم أن صاحبها ودع الحياة الفانية واستحب الرحيل إلى عالم البقاء، خمس سنوات مضت سراعاً سرعة البرق الخاطف. وأنت أنت مازلت في قلوبنا وأسماعنا ووجداننا ذكرى جميلة فإليك حمأة الشوق ومصداقية الحب بمشاعر إخوانية ربطتنا منذ أكثر من ستين عاماً.. ونحن على اتصال يومي صادق أرجو لك أرفع الدرجات من الجنة يا عزيزنا (أبا وجدي) يامن رسمت لنا بالكلمات أجمل أيقونات الحب والعاطفة بنبل أخلاقك ورفاهة إحساسك...ويمضي الشاعر الجوهرجي في حزنه قائلاً: رياضك التي كنت ترويها برذاذ حبك ودموع قلبك وغشقات وجدانك ودفء حنانك ذبلت بعد فراقك ويبست أغصانها وفاء لبعدك عنها أيها الحبيب الغائب في الوجود الحاضر في الوجدان.أما الكاتب والقاص الأستاذ عبدالله ساعد المالكي فيكشف في كلماته صداقته المتينة مع الراحل الجفري وكيف تجاوب معه في رسالة رقيقة تذوب عذوبة وصدقاً إذ يقول المالكي:
أبا وجدي صاحب القلم الأخضر والظلال الوارفة والقلب الكبير وقد سألني كثيرون لماذا لم أرثِ أبا وجدي عندما رحل كما رثاه آلاف المحبين عبر مختلف الوسائل وأقول لهم.
بأن حجم الألم أحيانا يكون أكبر مما تستوعبه الكلمات وكذلك كان حجم ألم وفقد أبي جدي.
كان أبو وجدي رحمه الله واسكنه فسيح جناته مثل النهر المتدفق في سخائه وروعته رجل مهذب بكل معنى سهل المحيا طيب الخاطر لا ينحو للحقد او الضغينة ولم أشهده يوماً أو أقرأ له وهو يقف شامتاً على جثة أحد حتى على أولئك الذين ربما أساؤوا له أو تجاهلوه بقصد أو بغير قصد وذلك عندما كانت رياحهم مواتيه ودروبهم سالكة.
وكان عندما يدير لهم الزمن ظهره وتعصف بهم صروف الليالي يبادرهم أبو وجدي ويظهر لهم وجهه المليح المسامح يتذكرهم في كتاباته ويدافع عنهم ويدعو إلى الاهتمام بهم والالتفات إليهم، تنساب الكلمات على يديه وبين اصابعه بسلاسة وعمق وقد شاهدته وهو يكتب ويتدفق بأروع الكلمات دون ما تكلف أو مشقة أو زيف.
لا يحتقر أحداً ولا يقلل من شأنه أو شأن ما كتب رعى مواهب كثيرين وأنا منهم وافرد لنا مساحات عريضة في زاويته الشهيرة (ظلال) وكذلك في الملاحق أو الصفحات التي يكون له الإشراف عليها، وسأحكي قصة هي بداية علاقتي به - رحمه الله- قصة تدل على ما كان يتمتع به من خلق رفيع ونقاء سريرة، وكانت تلك القصة هي بداية لعلاقة امتدت سنوات طويلة سعدت فيها بصحبته داخل المملكة وفي بعض أسفاره خارجها وعرفت فيه خلالها ذلك القلب النقي العطوف المتسامح وتلك اليد السخية بالمال والمعنى تجاه كل من مد له يده مصافحا عرفه أم لم يعرفه، كنت يافعاً في العشرينات من العمر وفي بداية علاقتي بالصحافة والأدب وذات يوماً ضاقت بي السبل واجتاحتني كآبة مبعثها بعض منغصات الحياة وامتشقت قلمي وسطرت رسالة لأصحاب القلم والقلب الكبير أبث فيها لواعج من حرقة الجوى وجور الأيام وغربة الحياة. كانت رسالة قارئ نكرة إلى أستاذ في أوج مجده الصحفي والأدبي.
ويسترسل القاص المالكي ليقول: وذات يوم وانا في مكتبي المتواضع حيث أعمل حضر شخص يبحث عني وعندما التقيت به سلمني مغلفا صغيرا وقال هذا من عند الأستاذ ثم انصرف،فتحته فكانت رسالة رقيقة بخط يده وبقلمه الاخضر الشهير رسالة تعج بالمحبة والأمل والدعوة للتفاؤل. يدعوني فيها انا الشخص الذي لم يكن يعرفه من قبل الى صداقته ويحثني على التمسك بالحياة والتسلح
بالإيمان والأمل ويدعوني للبوح له اذا احتجت للبوح. وهنا مقتطفات من رسالته الرقيقة:
(أخي عبدالله المالكي)
احببت دخولك المباشر وصدقك
ستجدني الصديق حقا.. حين تريد مني نقاء الصداقة. فلا تتردد
رسالتك طافحة بالأسى والحزن والشجون.
ماذا حدث لك؟
الناس يتشابهون يا أخي..
إلى أن يقول.. مواسياً
نعم.. مازالت تحرقني حتى الآن آمال وتطلعات وأحلام..
أواصل الاحتراق بامتنان....
المهم: إن قدرتي على الحياة، والركض،والطلوع مازالت عفيّة، فعالة. ويختم رسالته قائلاً:
لا تتردد في الكتابة إليّ كلما احتجت إلى البوح.
أخوك /عبد الله الجفري.
20/8/1409ه
تلك الرسالة مازالت معي ككنز ثمين وستبقى ان شاء الله وقد غلفتها خشية أن يذهب الزمن ببريقها أو أن يطال التلف شيئاً منها لقد منح الراحل الجفري قسطاً من حياته لجيل الشباب الذين أدركتهم حرفة الصحافة والأدب فهذا الكاتب الصحفي والقاص الأستاذ محمد المنقري الذي يكن له الحب وتتلمذ عليه في المدارس الصحافية وخالطه وحاوره كثيراً يتساءل عن عقوق المجتمع الثقافي والصحافي تجاه الجفري ويقول أيضاً:
ولا أود أن يكون الكلام هنا عن مآثر الراحل أو أدواره الثقافية التي اضطلع بها في حياته، ولكنني أود الإشارة إلى الأدوار الملقاة على المؤسسات الثقافية والإعلامية في البلاد التي كان الراحل سنداً حقيقياً لها ومشاركاً فاعلاً في برامجها وآلياتها وداعماً يشهد له الجميع بفرادة أفكاره وتقدمها واتساعها وتجاوزها للزمن الذي ولدت فيه.
كان الأستاذ الجفري ناشطاً بامتياز في كل مؤسسة عمل بها، ومؤثراً في الساحة الثقافية التي كان أحد رموزها في الجيل الثاني بعد جيل التأسيس وأثمرت حدائقه الإبداعية وامتد أثره إلى أجيال لاحقه ما زالت تدين له حتى اليوم؛ فلا يوجد كاتب إلا تفيأ "ظلاله" واستند إلى "الجدار الآخر" أو التمس طريق الكتابة الشفافة الحميمة في "الظمأ" ولا تجد كاتباً مفعماً بالود والمحبة ورحابة الحوار إلا وعبر منصتاً أقانيم "حوار في الحزن الدافئ" .
كنت أتمنى أن تبادر المؤسسات الثقافية إلى طباعة أعماله التي لم تر النور، وقد وعدت وزارة الثقافة بشيء من هذا ولم تف بوعدها، وتقاعست المؤسسات الصحفية التي انتمى إليها الكاتب عن طباعة كتاب تأبيني عن الراحل أو جمع إنتاجه في كتاب يوثق علاقته بها ويبرهن على احترامها للقيم الثقافية والإبداعية التي أسرجت طريقها منذ عقود.
ولم تسع الأندية الأدبية إلى أي عطاء واحد يحسب لها تجاه الراحل، وهي عادتها مع كل الراحلين، بكل أسف، وهي بذلك تؤكد الحدس والرأي الجريء الذي تبناه الراحل تجاه هذه القطاعات.وعلى الضفة الأخرى لم يبادر قسم من أقسام اللغة العربية إلى جعل منجزه الإبداعي السردي محور دراسة تستبطن خصائصه وتتأمل المكونات التي امتلك ناصيتها بكل مهارة وريادة، كان الجفري طيلة حياته حفياً ومتأملاً لمقولة أستاذه الزيدان "المجتمع الدفان" ولم يكن ينساها في أي جلسة أو حوار يجمعني به غاضباً من حالات العقوق التي تضج بها الساحة! وها هو الآن قد ترك تاريخا للمجتمع الدفان، بكل أسف، لولا المبادرات النقية التي تقودونها هنا في صحيفة الرياض،رحم الله أستاذ الأجيال عبدالله عبدالرحمن الجفري ومنح الساحة الثقافية القدرة الكافية لرؤية منجزاته بما تستحقه من قراءات متجددة ودراسات.
أما الأديب الكبير والكاتب المعروف الأستاذ حمد القاضي فله مع الراحل الجفري علاقة ملؤها الحب والتقدير وجاءت كلماته تفيض وفاءً ومشاعره تنم عن صداقة طويلة وهنا يتساءل القاضي قائلاً:
هل غاب الأديب عبدالله عبدالرحمن الجفري – رحمه الله – حتى نتذكره ونذكره.
وهل رحل حتى نستعيد ذكره وذكراه؟ إنه باق معنا بحروفه وكتبه وعطاءاته، ومريديه وتلامذته وكاتب هذه السطور واحد منهم، لقد علمنا الراحل جسداً الباقي عطاءً "أبو وجدي" أبجديات الكتابة، وجمالية الكلمة، وأناقة العبارة والرومانسية العذبة، عبدالله الجفري كان قلمه – رحمه الله – مغموسا برحيق الحب وليس بمداد الحبر، كان يكتب لينغّم جمال الحياة، ويحرض على أشواق الوجود رغم ما في هذا العالم من قبح وتعذيب وأشواك،ذلك القلب الذي أنهكه إرسال نبضات المحبة لضمير هذا العالم المسكون بالكراهية لم يكف قلبه عن ممارسة المحبة ولا قلمه عن زرع البياض، لم يتوانَ حتى آخر حياته لحظة سقوط القلم من يده عن بث نشيد البهاء في دنيا يملؤها نشيج الدماء، لم يسأم سطره من نشر الرحيق ليطفئ به بعض شرارات الحريق.
عندما أتعبه قلبه وهو بيننا – رحمه الله – استشهدت بقول ذلك الشاعر أخاطب فيه الداء الذي استوطن قلبه:
((لو كان يدري بقلب سوف يسقمه
لو كان يدري لما امتدت عواديه) )
أجل – أيها الغالي الراحل – لو كان هذا الداء يدرك رقة وحساسية وصفاء قلبك ما تسلّل إليه، ولما أوقف تدفق أنهار المحبة ما بين نبضه وفيضه، رحمك الله رحمة واسعة، فأنا أحد محبي الراحل - وأحد تلامذته.
ونختتم مهرجان الوفاء بمشاركة الكاتب والقاص الأستاذ علي زعلة حيث قال:
من خلال اشتغالي على المدونة الروائية للأستاذ عبدالله الجفري، رحمه الله، لمست كمية الوعي المتجذر في ذاكرته الثقافية بكافة صورها حول الإنسان، والهم الذي يحمله الجفري عبر كتاباته السردية تحديدا لقضايا الإنسان، الإنسان في بلده والإنسان العربي والإنسان بوصفه ذاتا مقدسة في كافة الحضارات والثقافات والديانات،إذ تتركز القيم الموضوعية في رواياته حول القلق الوجودي والاضطراب والأزمة التي تشكلت بفعل التحولات الثقافية والفكرية والسياسية المعاصرة، وظلالها التي ألقتها على روح الإنسان وإنسانيته، وعلاقته بذاته وبالآخر. تبدى ذلك عبر غياب الصفاء والنقاء والصدق في التعاطي الشعوري والأخلاقي لدى الأفراد والمجتمعات. وعلى سيطرة نظرية الصراع لا التعايش، والعنف لا التسامح والسلام. وقد عالجت رواياته رحمه الله عددا من القيم الإنسانية التي تهشمت وتشوهت في الوعي والممارسة للإنسان المعاصر (المعصور كما سماه في إحدى رواياته).
هذه الذكرى للجفري، تحفزنا جميعا على استحضاره روحا شفافة صادقة نبيلة، وعلى تمثُّلها في ممارساتنا الثقافية بمفهومها الشامل. فهو رائد من رواد ثقافتنا، ومن أوائل من كتبوا القصة في السعودية، ومن أبرز كتاب المقال الذاتي والاجتماعي في صحافتنا العربية. وهو قبل ذلك كله إنسان شاسع الإنسانية رحمه الله.